أخبار مصرالأدب و الأدباءحصرى لــ"العالم الحر"منوعات ومجتمع

علاء جمال الجرزاوي يكتب ” رسالة الي أبي “

فمن الحضور الطاغي للغياب شبه التام ،

احجز مساحتك الاعلانية

 

مرت سنون يا أبتاه من الصمت النسبي بيننا، حنى ظننتُ أنه شر و فيه الخير الوفير، والصلاح الوثير. أعلم ما أثار حفيظتك! كيف تحولت مائة وثمانون درجة للنقيض تمامًا؟!

فمن الحضور الطاغي للغياب شبه التام ، ومن الحُنو للقسوة، ومن الالتحام للانفصال، ومن الشغف للفتور؛ إنها أحاسيس ظاهرة غير صادقة! ودواخلي كانت وما زالت لك يا أبي، لكن قل لي يا أبي كيف أدرك عظمة الصمت دون تذوق لوبال أحاديثي الضالة، ومناجاتي القاتلة؟ كلانا يعرف يا أبي أن هذا ثاني عشر رمضان بعيدًا عنك، إني مدرك بعدك يا أبي فلكم هو مؤلمٌ وصعب ذالكم الفراق؟ لكن كيف لي أن أدرك عظمة لقائك دون أن أكون بعيدًا عنك فأتوق لرؤيتك فآتى إليك؟ ففي ذلك السلوان لكلينا. دخلت المطبخ يا أبي، فوجدته في غير عادته، إنه مظلم يا أبي…! رغم أني متذكر جيدًا بأنني لم أطفئ مصباحه بعد…!، حاولت إنارته دون جدوى، بدا لي من دون ريب أنه قد تَلِفَ، فلم أهتمْ في البداية باستبداله ، لكن مع دخول الشهر الفضيل اشتريت مصباحًا، سأصف لك إحساسي يا أبناه فحينما هممت إلى المصباح وأنرتُهُ علمتُ الفرق بين الظلمات وبين النور، فقل لي يا أبتاه كيف أعي أنك القنديل الذي ينير حياتي دون أن أرى ظلمات التخلي والبعد عنك؟ إنه الإشراق يا أبتاه فهل ثمة قيمة له إن لم يكن هنالك ليل؟ في فترة الحجر المنزلي، عدت بالخلف بضع سنين، تحديدًا عام اثنى عشر بعد الألفين، كنت حينها أعمل بإحدى مدارس اللغات، ولكنني ألقيت بأوراقي المطلوبة في مسابقة حكومية في محافظة الجيزة نزولًا لرغبتك، وعندما وجدت اسمي أول المقبولين لم أكترث لذلك حتى هاتفتني ونصحتني بترك المدرسة القديمة لالتحق بجديدة مضمونة على حد تعبيرك، الآن بعدما سرحت بعض مؤسسات القطاع الخاص موظفيها أو خصمت منهم، أو ارغمتهم على إجازة مفتوحة لحين عودة المياه لمجاريها، والأمور لنصابها، أدركت أنك تمتلك الحقيقة، أنا الآن في منأى عن كل ذلك بفضلك يا أبي، لكن قل لي يا أبي، كيف لي أن أفهم الصواب دون أن انغمس في الخطأ؟ وكيف لي أن أعرف قيمة الحوار البناء الإيجابي، دون أن أغرق في الجمود والتعصب للرأي الواحد؟ كيف لي يا أبي أن أعلم أهمية النظر للأمام واستشراف القادم دون أن انكفئ على وجهي حينما أنظر تحت أقدامي؟ وكيف تنتشلني من أعماق الحيرة وتغرسني على أعتاب الصواب بهذه الدقة؟! أبتاه، إني رأيت لك بالضبط من المواقف ألفًا، كانوا جميعهم صوابًا إلا واحدًا، أعرف أنه سيمر مثلما مرَّ كل مُرٍ، تأذيت بسببه، لكن في الوقت ذاته من غير المقبول على الإطلاق ألا أقول عنك حكيمًا بسبب خطأ واحدٍ؟ فكيف لي يا أبي أن أكون معترف بفراستك وفهمك وتفهمك دون أن أكون جاحدًا تارة بحكمتك، وكافرًا أخرى برؤيتك ؟ هَلّا تتذكر يا أبتاه عندما مررتَ بوعكةٍ صحية، وبينك وبين أحد أقربائنا خصومة كبيرة، لكنه عندما علم بما تمر به جاءك حاملًا ما يطلق عليه “الواجب”، لقد تفأجأنا بقدومه لعيادتك، وعندما رحل قلت لك : لقد عظمت مكانة هذا الرجل في قلبي يا أبي بعدما طرح الخلاف أرضًا وجاء ليطمئن عليك. التفت لي يا أبي حينها وقلت بلهجة صعيدة حانية : “بص يا ولدي! قريبك إن شواك مايكلكش!!”. فقل لي يا أبتاه كيف لي أن أتذوق جمال ردودك دون أن أجادلك حتى أصل إلى لجة فكرك وعميق خبرتك؟ وكيف تضخ دماء الأمل والثقة والمحبة بهذا الرسم المتقن؟ قل لي يا أبي كيف أكون لينًا دون أن أكن متينًا؟ ثم أخبرني يا أبي، كيف زرعتَ فيَّ عزيمة لا تعرف الهزيمة أو التثاؤب فلا تخضع للوسادة؟ عظيمٌ أنت يا أبتي، مربيًا جسورًا، وأنا وإن كنت معلمًا مثلك، إلا أنك بالطبع أفضل مني طريقة وتعليمًا وتربيةً، فاتني نصف عمري كوني لم أكن تلميذًا في غرفة صفك، فما إن أكن أنا في مدرسةٍ تكن أنت في أخرى لكن هذا لم يمنعني من تعلم مهارات التواصل والإقناع والمثابرة منك أثناء التجارة التي كنت بارعًا وماهرًا بها، ثمة علاقة طردية بين الرياضيات والتجارة، لكن قل لي يا أبي كيف يحكمون عليَّ بأنني أكبر من سني دون أن أتعثر في تجربتي، وترتجف أركان مساعيَّ، فأتعلم منك الثبات قبل أن تأوي إلى الظل؟ وكيف لي أن أحتوي دون أن ألتوي؟ وكيف لي أن أقارب دون أن أوارب؟ وكيف لي أن أخرج من تجربتي معك دون أن يكون لديَّ كبرياء وأكتمل دون أن أكون صفرًا؟ وكيف لي بذكرك دون أن تسير قشعريرة محبتك في جسدي لتوقظ فخري بك يا من غمرت دواخلي بالاحترام؟ وأخيرًا يا أبتي كيف لي ألا أشكرك وأحبك بعد كل ما قدمت؟ وكيف لا أشكرك على أعظم إنجازاتك : إن أخترت لي أمي؟ نسيت يا أبي أن أخبرك أنني ابتعت مسكنًا جديدًا لي حتى تطمئن ولا يعتريك القلق عليَّ، أو تمتلئ عيناك بالدمع الشفيف. فهل ستأتي لزيارتي فيه يا أبتي؟

احمد فتحي رزق

المشرف العام

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى